«انت إيه اللى وصلك لكده؟!» كيف فقدت إنسانيتك؟ كيف تسللت هذه الفطريات العفنة والفيروسات السرطانية إلى داخل نواتك الأخلاقية؟ كانت هذه هى الأسئلة التى ظلت تتردد أصداؤها فى مركز الإبداع بالأوبرا، أسئلة حاول عرض «بعد الليل» للمخرج الجميل خالد جلال طرحها والإجابة عنها من خلال عرض بسيط لكنه غير سطحى، عميق لكنه غير معقد أو متعال، ضاحك لكنه الضحك المحسوب البعيد عن «الفارس» أو الابتذال، الضحك المغموس فى مرارة الدمع، الابتسامة التى تنتهى على الدوام بشهقة شجن، مزيج من السعادة والمتعة والدهشة وأنا أشاهد هذا العرض البديع، كيف استطاع خالد جلال أن يشكل عجينة الهواة تلك ممن يمثلون لأول مرة وممن قبلهم المركز دون اختبارات مسبقة فى مغامرة ومقامرة، كيف استطاع أن يوظفهم فى تكوينات بصرية منضبطة وبديعة ومدهشة؟ كيف صارت ملامحهم وأجسادهم أدوات مسرحية تتفوق على الكلمة؟ كيف صارت تلك اللوحات المسرحية المنفصلة فصوصاً فى عقد منتظم ملتحم لا تنافر فيه؟ كيف جعلهم يحافظون على الإيقاع ويغتالون غريزة الشو ونرجسية التأليف على خشبة المسرح وشبق النجومية عبر نفى الآخر وقتل الزميل وتحية الجمهور على جثته؟! إزاى وصلت لكده؟ إزاى وصلت لهذه الحالة المزرية من تحرش وتبلد حس وعطش مادى تشرب مياهاً مالحة لرى ظمئه وتشتت ذهنى يجعلك يسارياً اليوم وسلفياً فى الغد؟ كيف صرت عبداً لشاشة تزيف وعيك وتحشو دماغك وتحولك إلى دمية ماريونيت سلبية تحركها أسلاك الفضائيات؟ كيف انفصلت عن الواقع فى عالمك الافتراضى الجاف الخشن وارتضيت أن تتشرنق وتعيش فى درقة سلحفاة الـ«فيس بوك وتويتر» وتهاجر إلى صوبة وصقيع الشبكة العنكبوتية وتركل قيم التواصل والأسرة وترفض دفء الحب؟ كيف صارت المرأة سلعة تاجر وصيادة عرسان وفريسة متحرش وفاترينة سوبر ماركت ولوحة نيشان كبت ذكورى له فحيح الأفاعى وتربص الضباع؟ كيف صرنا كوكبين على نفس الوطن ليس بينهما حبل سرى مصرى، كوكب المليارديرات الذين يموتون من التخمة وكوكب المتسولين الذين يموتون من الجوع؟.. إلخ، كل هذا وغيره من الأسئلة والأسباب عرضتها مسرحية «بعد الليل» دون فذلكة أو تعقيد أو إفيهات خارجة، دون ملل أو سربعة أو تسول ضحك وشحاتة تصفيق. تحية للمخرج الرائع خالد جلال الذى يؤدى مهمة فنية بالغة الأهمية ويقدم للمسرح والسينما كل فترة كتيبة من الموهوبين تثرى ساحة الفن والإبداع، تحية لكل فريق العمل من ممثلين أثبتوا جدارة فى زمن قياسى وقدرة على التعلم والتلمذة فى زمن أنانى، يحس فيه كل إنسان أنه مركز الكون ومعلم البشر، وأنتظر لهم مستقبلاً باهراً بشرط ألا يتنازلوا عن هذا الإحساس برهبة التعلم الفنى المزمن المتواصل وألا يقعوا فى فخ ثقة الاستسهال، تحية لفريق العمل من المخرجة المنفذة للموسيقى لتصميم الأزياء للإضاءة، فريق عمل متكامل وجد قيادة مخلصة وبوصلة واضحة فأبدع عملاً يستحق المشاهدة ويستحق الإشادة ويستحق الاحترام.